الثلاثاء، 14 فبراير 2017

السلطان عبد الحميد الثاني





السلطان عبد الحميد الثاني هو السلطان الرابع والثلاثون من سلاطين الدولة العثمانية، وآخر من أمتلك سلطة فعلية منهم . ولد في شعبان سنة 1258هـ/ 21سبتمبر (أيلول) 1842م .
وتلقى السلطان عبد الحميد تعليمه بالقصر السلطاني وأتقن من اللغات: الفارسية والعربية وكذلك درس التاريخ وأحب الأدب، وتعمق في علم التصوف، ونظم بعض الأشعار باللغة التركية العثمانية .
والسلطان عبد الحميد هو ابن السلطان عبد المجيد الأول، وأمه هي واحدة من زوجات أبيه العديدات وأسمها " تيرمزكان قادين" الجركسية الأصل توفيت عن 33 عاما، ولم يتجاوز ابنها عشر سنوات،فهو الابن الثامن بين أبنائه عموما ، والثاني في الذكور ، والثاني أيضاً بين أبنا عبدا لمجيد الذين تولوا السلطة والخلافة ، فعهد بعبد الحميد بعد وفاة أمه إلى زوجة أبيه "بيرستو قادين" التي اعتنت بتربيته ولم تكن قد رزقت أولاداً، وأولته محبتها؛ لذا منحها عند صعوده للعرش لقب "السلطانة الوالدة".
وعُرف عنه مزاولة الرياضة وركوب الخيل والمحافظة على العبادات والشعائر الإسلامية والبعد عن المسكرات والميل إلى العزلة وكان حذرا كتوما جدا ، قليل الكلام كثير الإصغاء ، من الصعب غشه ، وكان محافظا على التقاليد الإسلامية الشرقية العثمانية التركية ،وكان من مؤيدي المحافظة عليها، وتدرب على استخدام الأسلحة وكان يتقن استخدام السيف، وإصابة الهدف بالمسدس، وكان مهتماً بالسياسية العالمية ويتابع الأخبار عن موقع بلاده منها بعناية فائقة ودقة ناردة .
توفي والده وعمره 18 عامًا، وصار ولي عهد ثان لعمه .
تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة ، في 11 شعبان 1293هـ، الموافق 31 آب (أغسطس) 1876م،وكان عمره آنذاك 34عاما إلا19عشر يوما ، وتبوَّأ عرش السلطنة يومئذٍ على أسوأ حال، حيث كانت الدولة في منتهى السوء والاضطراب، سواء في ذلك الأوضاع الداخلية والخارجية.

التشويه و الافتراء

(قال الأستاذ علي عبد العال في مقال له ) كاد أن يجمع العدول من كتاب و باحثي التاريخ على أن تاريخ السلطان عبدالحميد الثاني ناله من التشويه والافتراء ما لم تنله شخصية تاريخية على الإطلاق حتى جاوز ذلك الحد المعقول فألصق به من الدكتاتورية و الاستبداد و الطغيان ما جعل أكبر جبابرة البشرية يتضائلون جواره و في ذلك من الافتراء على الرجل الكثير و الكثير و لما كان السلطان عبدالحميد علمٌ على وجود الدولة العثمانية نظراً لطول الفترة التي قضاها حاكما لها أكثر من ثلث قرن فكان كل حاقد أو طاعن على الدولة التي ظلت تحتضن الخلافة الإسلامية حتى أوائل القرن العشرين يرى في السلطان الذي هو رأس الدولة والهدف الذي ينبغي أن تصوب له سهام الحقد فألصقوا بالرجل كل نقيصة و شوهوا تاريخه و طعنوا فيه.اهـ وذكر السلطان عبدالحميد – رحمه الله - في مذكراته ( منذ إبعادي عن العرش حتى الآن كتبوا ضدي مجوعة من المقالات وعديد من الكتب يقطر الدم من قلم أعدائي ، فما أكثر ما لم أعمله ) . اهـ

كان للسلطان عبدا لحميد منطلق فكري وعقدي

كان للسلطان عبدالحميد منطلق فكرى وعقدي تمثل في أن الإسلام - كما جاء في مذكراته - (هو الروح التي تسرى في جسم البشرية فتحيها و تغزو القلوب فتفتحها ) ويرى ( أن القوة الوحيدة التي ستجعلنا واقفين على أقدامنا هي الإسلام ) ( وأننا أمة قوية بشرط أن نكون مخلصين لهذا الدين العظيم ) .
وعرف اليهود إن طريق السلطان محفوف بالخطر إذن فليزول السلطان و ليفتح الطرق أتباعهم يقول الأستاذ طه الولي : ( كانت غاية اليهود إزاحة السلطان عبدا لحميد من طريقهم الموصل إلى فلسطين ولذلك تمكنوا من رشوة بعض رجال الدين ودفع المناوئين له إلى الثورة عليه والتخلص نهائيا منه تمهيدا للتخلص من الإسلام نفسه فيما بعد وقد واتت هذه الحركة الارتجاعية أملها بالنصر لليهود لتحقيق مطامعهم ) .

سياسته ومشاريعه :

ذكر مصطفى عاشور في مقاله عن السلطان عبد الحميد
أن السلطان عبد الحميد الثاني – رحمه الله - كان يرى ضرورة العمل على توحيد القوى الإسلامية لمجابهة الروح الاستعمارية الطامعة في الدولة العثمانية؛ لذلك سعى إلى طرح شعار الجامعة الإسلامية، وجعلها سياسة عليا لدولة الخلافة، فعمل على تدعيم أواصر الأخوة بين مسلمي الصين والهند وإفريقيا، ورأى في ذلك الشعار وسيلة لتوحيد الصفوف حوله وحول دولته في الداخل والخارج؛ فاستعان بمختلف الرجال والدعاة والوسائل لتحقيق غرضه، فأقام الكليات والمدارس، وربط أجزاء الدولة بـ30 ألف كيلومتر من البرق والهاتف، وبنى غواصة وقامت تجارب الغواصة من ماله الخاص وفي ذلك الوقت لم تكن انجلترا تملك سفينة تسير تحت الماء ، وعني بتسليح الجيش.
إلا أن أعظم مشروعاته الحضارية هو سكة حديد الحجاز لتيسير الحج على المسلمين، بحيث يستعاض بهذا المشروع عن طريق القوافل الذي كان يستغرق السفر به أربعين يومًا، وانخفضت المدة بالخط الحديدي إلى أربعة أيام.
وقد خلق هذا المشروع العملاق الذي وصلة تكلفته 3ملايين جنيه وقد استغرق إنجازه سبع سنين من 1320ه-1327 ه ـ حماسة دينية بالغة بعدما نشر عبد الحميد الثاني بيانًا على المسلمين يدعوهم فيه للتبرع، وافتتح القائمة بمبلغ كبير؛ فتهافت المسلمون من الهند والصين وبقية العالم على التبرع، باعتبار أن هذا المشروع هو مشروع المسلمين أجمعين وتبرع السلطان بمبلغ (320) ألف ليرة من ماله الخاص. وتبرع شاه إيران بخمسين ألفًا، وأرسل خديوي مصر عباس حلمي الثاني كميات كبيرة من مواد البناء، وتألفت في سائر الأقطار الإسلامية لجان لجمع التبرعات.
وأصدرت الدولة العثمانية طوابع ( تمغات ) لمصلحة المشروع، وجمعت جلود الأضاحي وبيعت وحولت أثمانها إلى ميزانية الخط، وبذلك انتقلت حماسة إنشاء الخط الحجازي إلى العالم الإسلامي، وكان مسلمو الهند من أكثر المسلمين حماسة له و لم تقتصر تبرعات وإعانات المسلمين على الفترات التي استغرقها بناء الخط فحسب، بل استمر دفعها بعد وصوله إلى المدينة المنورة؛ أملاً في استكمال مدّه إلى مكة المكرمة.
وقد وصل أول قطار إلى المدينة المنورة في (22 رجب 1326هـ = 23 أغسطس 1908م) وأقيم الاحتفال الرسمي لافتتاح الخط الحديدي بعد ذلك بأسبوع ليصادف تولي السلطان عبد الحميد الثاني السلطنة.
أسدى الخط الحجازي خدمات جليلة لحجاج بيت الله الحرام؛ حيث استطاع حجاج الشام والأناضول قطع المسافة من دمشق إلى المدينة المنورة في خمسة أيام فقط بدلاً من أربعين يومًا، مع العلم أن الوقت الذي كان يستغرقه القطار هو (72) ساعة فقط، أما بقية الأيام الخمسة فكانت تضيع في وقوف القطار في المحطات وتغيير القاطرات.
استمرت سكة حديد الحجاز تعمل بين دمشق والمدينة المنورة ما يقرب من تسع سنوات نقلت خلالها التجار والحجاج.

من أهم إنجازاته :

في وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تقلد السلطان عبد الحميد الحكم، وبدأ في العمل وفق السياسة الآتية :
1- حاول كسب بعض المناوئين له واستمالتهم إلى صفه بكل ما يستطيع.
2- دعا جميع مسلمي العالم في آسيا الوسطى وفي الهند والصين وأواسط أفريقيا وغيرها إلى الوحدة الإسلامية والانضواء تحت لواء الجامعة الإسلامية، ونشر شعاره المعروف "يا مسلمي العالم اتحدوا"، وأنشأ مدرسة للدعاة المسلمين سرعان ما أنتشر خريجوها في كل أطراف العالم الإسلامي الذي لقي منه السلطان كل القبول والتعاطف والتأييد لتلك الدعوة، ولكن قوى
الغرب قامت لمناهضة تلك الدعوة ومهاجمتها .
3- قرّب إليه الكثير من رجال العلم والسياسة المسلمين واستمع إلى نصائحهم وتوجيهاتهم .
4- عمل على تنظيم المحاكم والعمل في "مجلة الأحكام العدلية" وفق الشريعة الإسلامية .
5- قام ببعض الإصلاحات العظيمة مثل القضاء على معظم الإقطاعات
الكبيرة المنتشرة في كثير من أجزاء الدولة، والعمل على القضاء على الرشوة وفساد الإدارة .
6- عامل الأقليات والأجناس غير التركية معاملة خاصة، كي تضعف فكرة العصبية .
7- اهتم بتدريب الجيش وتقوية مركز الخلافة .
8- حرص على إتمام مشروع خط السكة الحديدية التي تربط بين دمشق والمدينة المنورة لِمَا كان يراه من أن هذا المشروع فيه تقوية للرابطة بين المسلمين .

عبد الحميد والدول الكبرى 

كان السلطان شخصيًا غير مرغوب فيه بالنسبة للدول الأوروبية؛ لأنه يمسك في قبضته ملايين المسيحيين، وبصفته خليفة للمسلمين فإن له نفوذا وسلطانا روحيا على رعايا الدول الأوروبية المسلمين.
لم يكن من الممكن لأي من الدول الكبرى أن تقتطع أجزاء من الدولة العثمانية في أوروبا أو البلقان في ظل وجود عبد الحميد الثاني؛ لذا أخذت فكرة إسقاطه تكتسب ثقلا كبيراً بين أعدائه .
و في مذكرات السلطان عبدا لحميد يقول رحمه الله في رسالة كتبها بعد خلعه من الحكم إلى شيخه : " محمود أبو الشامات " : ( أنني لم أتخلَ عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوى أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم جون تورك و تهديدهم اضطررت وأجبرت على ترك الخلافة إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا على بان أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف وأخيرا وعدوا بتقديم 150 مليون ليرة إنجليزية ذهبا فرفضت هذا التكليف . لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على ثلاثين سنة فلم أسود صحائف المسلمين آبائي واجدادي من السلاطين والخلفاء وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى (اسلانيك ) فقبلت هذا التكليف الأخير وحمدت المولى وأحمده أنى لم أقبل أن ألطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي الناشئ عن تكليفهم بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة ) .
ويلاحظ أن السلطان عبد الحميد كان بعيدًا عن سفك الدماء أو أسلوب الاغتيالات وتصفية معارضيه، وكان لا يلجأ إلى عقوبة السجن إلا في القليل، ثم يغيرها بالنفي .اهـ

قال جمال الدين الأفغاني في السلطان عبدا لحميد: 

( إن السلطان عبدا لحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة، خصوصاً في تسخير جليسه، ولا عجب إذا رأيناه يذلل لك ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضياً عنه وعن سيرته وسيره، مقتنعاً بحجته سواء من ذلك الملك والأمير والوزير والسفير...)
ويقول أيضا: (أما مارأيته من يقظة السلطان ورشده وحذره وإعداده العدة اللازمة لإبطال مكائد أوروبا وحسن نواياه واستعداده للنهوض بالدولة الذي فيه نهضة المسلمين عموماً، فقد دفعني إلى مد يدي له فبايعته بالخلافة والملك، عالماً علم اليقين ، أن الممالك الإسلامية في الشرق لا تسلم من شراك أوروبا، ولا من السعي وراء اضعافها وتجزئتها ، وفي الأخير ازدرائها واحدة بعد أخرى، إلا بيقظة وانتباه عمومي وانضواء تحت راية الخليفة الأعظم...)

من أقوال السلطان عبدا لحميد:

( أنصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع فإني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين ، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمة الإسلامية، ولقد جاهد شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يوما فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أما وأنا حي فإن عمل المبضع في بدني لأهون علي من أن أرى فلسطين قد بترت من دولة الخلافة وهذا أمر لا يكون إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة) . اهـ
وقال – رحمه الله - ( يجب تقوية روابطنا ببقية المسلمين في كل مكان، يجب أن نقترب من بعضنا البعض أكثر وأكثر، فلا أمل في المستقبل إلا بهذه الوحدة، ووقتها لم يحن بعد، لكنه سيأتي اليوم الذي يتحد فيه كل المؤمنين وينهضون نهضة واحدة ويقومون قومة رجل واحد يحطمون رقبة الكفار ) . اهـ
لقد خدم السلطان عبدالحميد – رحمه الله – الأمة الإسلامية مدة ثلاثين عاما وعلى الرغم من ضعف الدولة العثمانية في عهودها الأخيرة وتكالب الأعداء عليها من جميع الجهات أن يقوم بخدمات جلىّ للبلاد فاقت ما قام به أقرانه من السلاطين المتأخرين . الخ.

وبعد هذا السرد الموجز نعتذر للقارئ الكريم أننا لم نأتي على كثير من جوانب حياة هذا الرجل البطل الذي ظل وفيا لأمته لأن الإتيان على ذلك يطول ولا تسمح لنا هذه الزاوية بهذا الأمر.
فرحم الله السلطان عبدا لحميد الذي ظل وفيا لأمته إلى آخر الرمق وقد وافاه الأجل في 10شباط عام 1918 م
.